فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَثَمُودَ فَمَا أبقى} أي: أهلك ثمودًا كما أهلك عادًا، فما أبقى أحدًا من الفريقين، وثمود هم قوم صالح أهلكوا بالصيحة، وقد تقدّم الكلام على عاد، وثمود في غير موضع.
{وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ} أي: وأهلك قوم نوح من قبل إهلاك عاد وثمود {إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى} أي: أظلم من عاد وثمود وأطغى منهم، أو أظلم وأطغى من جميع الفرق الكفرية، أو أظلم وأطغى من مشركي العرب، وإنما كانوا كذلك، لأنهم عتوا على الله بالمعاصي مع طول مدة دعوة نوح لهم، كما في قوله: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] {والمؤتفكة أهوى} الائتفاك: الانقلاب، والمؤتفكة: مدائن قوم لوط، وسميت المؤتفكة لأنها انقلبت بهم وصار عاليها سافلها، تقول: أفكته: إذا قلبته، ومعنى أهوى: أسقط، أي: أهواها جبريل بعد أن رفعها.
قال المبرد: جعلها تهوي.
{فغشاها مَا غشى} أي: ألبسها ما ألبسها من الحجارة التي وقعت عليها، كما في قوله: {فَجَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ} [الحجر: 74] وفي هذه العبارة تهويل للأمر الذي غشاها به، وتعظيم له، وقيل: إن الضمير راجع إلى جميع الأمم المذكورة، أي: فغشاها من العذاب ما غشّى على اختلاف أنواعه.
{فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تتمارى} هذا خطاب للإنسان المكذب، أي: فبأي نعم ربك أيها الإنسان المكذب تشكك وتمتري، وقيل: الخطاب لرسول الله تعريضًا لغيره، وقيل: لكلّ من يصلح له، وإسناد فعل التماري إلى الواحد باعتبار تعدّده بحسب تعدد متعلقه، وسمى هذه الأمور المذكورة آلاء، أي: نعمًا مع كون بعضها نقمًا لا نعمًا؛ لأنها مشتملة على العبر والمواعظ، ولكون فيها انتقام من العصاة، وفي ذلك نصرة للأنبياء والصالحين.
قرأ الجمهور {تتمارى} من غير إدغام، وقرأ يعقوب، وابن محيصن بإدغام إحدى التاءين في الأخرى.
{هذا نَذِيرٌ مّنَ النذر الاولى} أي: هذا محمد رسول إليكم من الرسل المتقدّمين قبله، فإنه أنذركم، كما أنذروا قومهم، كذا قال ابن جريج، ومحمد بن كعب، وغيرهما.
وقال قتادة: يريد القرآن، وأنه أنذر بما أنذرت به الكتب الأولى، وقيل: هذا الذي أخبرنا به عن أخبار الأمم تخويف لهذه الأمة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك، كذا قال أبو مالك.
وقال أبو صالح: إن الإشارة بقوله: {هذا} إلى ما في صحف موسى، وإبراهيم، والأوّل أولى.
{أَزِفَتِ الازفة} أي: قربت الساعة ودنت، سماها آزفة لقرب قيامها، وقيل: لدنوّها من الناس، كما في قوله: {اقتربت الساعة} [القمر: 1] أخبرهم بذلك ليستعدّوا لها.
قال في الصحاح: أزفت الآزفة: يعني: القيامة، وأزف الرجل: عجل، ومنه قول الشاعر:
أزف الترحل غير أن ركابنا ** لما تزل برحالنا وكأن قد

{لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ} أي: ليس لها نفس قادرة على كشفها عند وقوعها إلاّ الله سبحانه، وقيل: كاشفة بمعنى انكشاف، والهاء فيها كالهاء في العاقبة والداهية، وقيل: كاشفة بمعنى كاشف، والهاء للمبالغة كرواية، والأوّل أولى.
وكاشفة صفة لموصوف محذوف، كما ذكرنا، والمعنى: أنه لا يقدر على كشفها إذا غشت الخلق بشدائدها، وأهوالها أحد غير الله، كذا قال عطاء، والضحاك، وقتادة، وغيرهم.
ثم وبّخهم سبحانه، فقال: {أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ} المراد بالحديث: القرآن، أي: كيف تعجبون منه تكذيبًا {وَتَضْحَكُونَ} منه استهزاءً مع كونه غير محلّ للتكذيب، ولا موضع للاستهزاء {وَلاَ تَبْكُونَ} خوفًا وانزجارًا لما فيه من الوعيد الشديد، وجملة: {وَأَنتُمْ سامدون} في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون مستأنفة لتقرير ما فيها، والسمود: الغفلة والسهو عن الشيء، وقال في الصحاح: سمد سمودًا.
رفع رأسه تكبرًا، فهو سامد، قال الشاعر:
سوامد الليل خفاف الأزواد

وقال ابن الأعرابي: السمود: اللهو، والسامد: اللاهي، يقال للقينة: أسمدينا، أي: ألهينا بالغناء، وقال المبرد: سامدون، خامدون.
قال الشاعر:
رمى الحدثان نسوة آل عمرو ** بمقدار سمدن له سمودا

فردّ شعورهنّ السود بيضا ** وردّ وجوههنّ البيض سودا

{فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا} لما وبّخ سبحانه المشركين على الاستهزاء بالقرآن، والضحك منه، والسخرية به، وعدم الانتفاع بمواعظه وزواجره، أمر عباده المؤمنين بالسجود لله، والعبادة له، والفاء جواب شرط محذوف، أي: إذا كان الأمر من الكفار كذلك، فاسجدوا لله واعبدوا، فإنه المستحق لذلك منكم، وقد تقدم في فاتحة السورة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد عند تلاوة هذه الآية، وسجد معه الكفار، فيكون المراد بها سجود التلاوة، وقيل: سجود الفرض.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى} قال: أعطى وأرضى.
وأخرج ابن جرير عنه {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} قال: هو الكوكب الذي يدعى الشعرى.
وأخرج الفاكهي عنه أيضًا قال: نزلت هذه الآية في خزاعة، وكانوا يعبدون الشعرى، وهو الكوكب الذي يتبع الجوزاء.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضًا في قوله: {هذا نَذِيرٌ مّنَ النذر الأولى} قال: محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير عنه أيضًا قال: الآزفة من أسماء القيامة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد في الزهد، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن صالح أبي الخليل قال: لما نزلت هذه الآية: {أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ} فما ضحك النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلاّ أن يتبسم.
ولفظ عبد بن حميد: فما رؤي النبيّ صلى الله عليه وسلم ضاحكًا، ولا متبسمًا حتى ذهب من الدنيا.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {سامدون} قال: لاهون معرضون عنه.
وأخرج الفريابي، وأبو عبيد في فضائله، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عنه: {وَأَنتُمْ سامدون} قال: الغناء باليمانية، كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا.
وأخرج الفريابي، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه أيضًا في قوله: {سامدون} قال: كانوا يمرّون على النبيّ صلى الله عليه وسلم شامخين، ألم تر إلى البعير كيف يخطر شامخًا.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عن أبي خالد الوالبي قال: خرج عليّ بن أبي طالب علينا، وقد أقيمت الصلاة، ونحن قيام ننتظره ليتقدّم، فقال: ما لكم سامدون، لا أنتم في صلاة ولا أنتم في جلوس تنتظرون؟. اهـ.

.قال القاسمي:

سورة النجم:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} أي: إذا غرب وغاب عن الأبصار، أو انتثر يوم القيامة، أو انقضّ.
{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم. والخطاب لقريش، أي: ما حاد عن الحق، ولا زال عنه.
{وَمَا غَوَى} أي: ما صار غويًّا، ولكنه على استقامة وسداد ورشد وهدى. وفيه تعريض بأنهم أهل الضلال والغَيِّ. وذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان {صَاحِبُكُمْ} للإعلام بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة، وإحاطتهم بمحاسن شؤونه المنيفة؛ فهو تبكيت لهم على وجه أبلغ من أن يصرح باسمه.
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [3- 4].
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} أي: وما ينطق بهذا القرآن عن هواه ورأيه. وفيه تعريض بهم أيضًا {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} أي: ما هذا القرآن إلا وحي من الله يوحيه إليه. وجملة {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} صفة مؤكدة لـ {وَحْيٌ} رافعة لاحتمال المجاز، مفيدة للاستمرار التجدديّ.
والضمير للقرآن، لفهمه من السياق، ولأن كلام المنكرين كان في شأنه. وأرجعه بعضهم إلى ما ينطق به مطلقًا. واستدل على أن السنن القولية من الوحي، وقوّاه بما في (مراسيل أبي داود) عن حسان بن عطية قال: كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة، كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها، كما يعلمه القرآن، واستدل أيضًا على منع الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم. والصواب هو الأول، أعني: كون مرجع الضمير للقرآن، لما ذكرنا، فإنه ردّ لقولهم {افْتَرَاهُ} [يونس: 38] والقرينة من أكبر المخصصات. وجليّ أنه صلى الله عليه، كثيرًا ما يقول بالرأي في أمور الحرب، وأمور أخرى؛ فلابد من التخصيص قطعا، وبأنه لا قوة في المراسيل، لما تقرر في الأصول. وبأن الآية لا تدل على منع الاجتهاد المذكور، ولو أعيد الضمير لما ينطق مطلقًا؛ لأن الله تعالى إذا سوغ له الاجتهاد، كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحيًا، لا نطقًا عن الهوى؛ لأنه بمنزلة أن يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: متى ما ظننت كذا فهو حكمي، أي: كل ما ألقيته في قلبك فهو مرادي، فيكون وحيًا حقيقة، لاندراجه تحت الإذن المذكور، لأنه من أفراده. فما قيل عليه من أن الوحي الكلام الخفيّ المدرك بسرعة، فلا يندرج فيه الحكم الاجتهاديّ إلا بعموم المجاز، مع أنه يأباه قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] غير وارد عليه، بعدما عرفت من تقريره- نقله في (العناية) عن (الكشف) وتفصيل المسألة في مطولات الأصول.
{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}.
{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} أي: علم محمد صلى الله عليه وسلم ملَكٌ شديد قواه، يعني جبريل عليه السلام. كما قال: {إِنَّهُ لَقول رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 19- 20]، و{الْقُوَى} جمع قوة، بضم القاف. ومن العرب من يكسرها كالرِّشا بكسر الراء في جمع رشوة بضمها والحِبا في جمع حُبوة، نقله ابن جرير.
{ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} [6- 7].
{ذُو مِرَّةٍ} بكسر الميم، أي: متابة وإحكام في علمه، لا يمكن تغيّره ونسيانه. والعرب تقول لكل قويّ العقل والرأي:
{ذُو مِرَّةٍ} من أمررت الحبل، إذا أحكمت فتله.
{فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} قال الزمخشريّ: فاستقام على صورة نفسه الحقيقة، دون الصورة التي كان يتمثل بها، كلما هبط بالوحي. وكان ينزل في صورة دحية. فالفاء- كما قال شراحه- سببية، لأن تشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق. أو عاطفة على {عَلَّمَهُ} أي: علمه على غير صورته الأصلية، ثم استوى على صورته الأصلية.
وقيل: استوى بمعنى استولى بقوته على ما أمر بمباشرته من الأمور، حكاه القاضي.
قال الشهاب: الأفق الناحية، وجمعه آفاق. والمراد الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، لا مصطلح أهل الهيئة. انتهى.
وقال ابن كثير: وقوله تعالى: {فَاسْتَوَى} يعني جبريل عليه السلام، قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى، قاله عكرمة وغير واحد.
ثم قال ابن كثير: وقد قال ابن جرير هاهنا قولا لم أره لغيره، ولا حكاه هو عن أحد، وحاصله أنه ذهب إلى أن المعنى فاستوى، أي: هذا الشديد القوي وصاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى، أي: استويا جميعًا بالأفق الأعلى، وذلك ليلة الإسراء، كذا قال، ولم يوافقه أحد على ذلك، ثم شرع يوجه ما قاله من حيث العربية وهو كقوله: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا} [النمل: 67]، فعطف بالآباء على المكنيّ في {كُنَّا} من غير إظهار نحن، فكذلك قوله: {فَاسْتَوَى وَهُوَ} قال: وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده:
ألَم تَر أن النَّبْعَ يَصْلُبُ عُودُهُ ** ولا يستوي والخِرْوعُ الْمُتَقَصِّفُ

وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك، فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء، بل قبلها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض، فهبط عليه جبريل عليه السلام، وتدلى إليه، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، يعني ليلة الإسراء، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة، بعد ما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة، فأوحى الله إليه صدر سورة اقرأ، ثم فترة الوحي فترة «ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مرارًا ليتردى من رؤوس الجبال»، فكلما همَّ بذلك ناداه جبريل من الهواء: يا محمد! أنت رسول الله حقا، وأنا جبريل، فيسكن لذلك جأشه، وتقر عينه. وكلما طال عليه الأمر، عاد لمثلها حتى تبدى له جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح في صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، قد سدّ عظم خلقه الأفق، فاقترب منه، وأوحى إليه عن الله عز وجل ما أمره به، فعرف عند ذلك عظمة الملَك الذي جاءه بالرسالة، وجلالة قدره، وعلو مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه. انتهى.
أقول: قد وافق القاشانيّ ابن جرير في تأويل الآية، وعبارته:
{فَاسْتَوَى} فاستقام على صورته الذاتية، والنبيّ بالأفق الأعلى، لأنه حين كَوْن النبيّ بالأفق المبين لا ينزل على صورته، لاستحالة تشكل الروح المجرد في مقام القلب، إلا بصورة تناسب الصور المتمثلة في مقامه، ولهذا كان يتمثل بصورة دحية الكلبيّ، وكان من أحسن الناس صورة، وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يتمثل بصورة يمكن انطباعها في الصدر، لم يفهم القلب كلامه، ولم ير صورته. وأما صورته الحقيقية التي جبل عليها فلم تظهر للنبي صلى الله عليه وسلم إلا مرتين: عند عروجه إلى الحضرة الأحدية ووصوله بمقام الروح في الترقي، وعند نزوله عنها ورجوعه إلى المقام عند سدرة المنتهى في التدلي. انتهى.
وكذا المهايميّ وافقهما وعبارته:
{فَاسْتَوَى وَهُوَ} أي: صاحبكم عند استواء نفسه، صار بالأفق الأعلى الروحانيّ. انتهى.
وكذا الفخر الرازيّ وعبارته:
المشهور أن {هُوَ} ضمير جبريل، وتقديره استوى كما خلقه الله بالأفق الشرقيّ، فسدّ المشرق لعظمته، والظاهر أن المراد محمد صلى الله عليه وسلم، معناه: استوى بمكان، وهو بالمكان العالي رتبة ومنزلة في رفعة القدر، لا حقيقة في الحصول في المكان.
فإن قيل: كيف يجوز هذا والله تعالى يقول:
{وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 23]، إشارة إلى أنه رأى جبريل بالأفق المبين؟ نقول: وفي ذلك الموضع أيضًا نقول كما قلنا هاهنا، أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل بالأفق المبين. يقول القائل: رأيت الهلال، فيقال له: أين رأيته؟ فيقول: فوق السطح، أي: إن الرائي فوق السطح، لا المرئي. و{الْمُبِينِ} هو الفارق، من أبان الْإِنْسَاْن، أي: هو بالأفق الفارق بين درجة الْإِنْسَاْن، ومنزلة الملك، فإنه صلى الله عليه وسلم انتهى وبلغ الغاية وصار نبيًا، كما صار بعض الأنبياء نبيًا يأتيه الوحي في نومه وعلى هيئته، وهو واصل إلى الأفق الأعلى، والأفق الفارق بين المنزلتين. فإن قيل: ما بعده يدل على خلاف ما تذهب إليه، فإن قوله: